ينبغي أن ننظر بعين التقدير الكبير إلى المجهود الضخم الذي قام به هذا الجيل الذي انطلقت به أولى بوادر التشكيل المغربي، (1955-1965) ذلك أنه عانى كثيرا من العوائق والإحباطات. تجلت العوائق في انعدام ثقافة بصرية لدى المغاربة آنذاك (إلا ما كان خاصا بالفسيفساء والزليج والقيشاني)، وفي وقوف التقاليد دينية أو عرفية في وجه كل محاولة يقصد منها إدماج البصري في التذوق الجمالي. وتجلت الإحباطات في أن مستهلك التشكيل المغربي أجنبي وليس محليا، ولذلك، كان استغلال الإمكانيات التشكيلية المحلية يكاد أن يكون ضعيفا. يضاف كل هذا إلى أن جيل الانطلاقة عانى من سلطة الآباء الواقعين تحت تأثير فكرة حرمة التصوير التي جهر بها الفقهاء وأشاعوها في الناس، فكان أن منع الآباء أبناءهم من ممارسة الرسم تعلما وتعليما وهواية واحترافا. ولم يصمد في وجه هذه الفكرة إلا الرسامون الذين ذهبت بهم الجرأة إلى أبعد مدى، أو الذين كان لهم آباء متنورون، وحتى العامة، ما كانوا يرون في الرسام سوى إنسان يشغل وقته بما لا يليق به.
في هذا المناخ المضطرب، مارس جيل الانطلاقة التشكيل الذي كان آنذاك عبارة عن اتجاهين رئيسين هما التشخيصية على اتجاهين هما الانطباعية والفطرية، بينما اشتملت اللاتشخيصية أي التجريدية على الغنائية والمفارقية والعلامية والإلصاقية والهندسية والسوريالية والتلفيقية.
ويلاحظ أن التشخيصية الفطرية قامت على العصامية، والتشخيصية الانطباعية على الدرس الأكاديمي، على حين امتازت اللا تشخيصية بكون أغلب ممثليها تخرجوا من كبريات المدارس الفنية الغربية. يستثني منهم أحمد اليعقوبي، فلقد كان عصاميا شجعه على الرسم رسامون غربيون أقاموا في طنجة في السنوات الخمسين.
التشخيصية الإنطباعية
يمثل جيل التشخيصية الانطباعية كل من محمد السرغيني وحسن الكلاوي ومريم أمزيان، ويجمع بين هؤلاء جميعا أنهم اتخذوا لرسوماتهم موضوعا خاصا بكل واحد منهم، فالمكان للسرغيني والفرس للكلاوي والمرأة لأمزيان ، كما جمع بينهم وفاؤهم للأساليب الأكاديمية ولعكس أعمالهم على مظاهر مغربية.
محمد السرغيني والمكان
لقد انفرد محمد السرغيني (1923) في تشخيصيته بدراسة المكان على أساس الحالة أو المعمار أو التاريخ، المكان باعتباره فضاء للوحة. إن الأبواب المتمركزة في بعض لوحاته لتعكس أول ما تعكس تراثا طاله الإهمال، يؤكد ذلك أن الألوان والخطوط والمسافة التي تنجز بها هذه الأبواب تكتسب تعبيريتها من إقصاء الآلي لصالح توحيش بسيط. وفي إطار المعمار تنصب كل رؤية الرسام على تحديد هيكل مزدحم لمنازل تتجاور على رأس ربوة في إطار فضاء يشكل حدود المساحة المرسومة، كما هو الشان في تلك اللوحات التي تشخص بعض أحياء تطوان هناك طراز قوطي أندلسي من حيث شكل هذه المنازل، وهناك طراز محلي تطواني يدل على بياض الجير وسطيح قرميدية حمراء هي ميراث أندلسي؟ وفي إطار التاريخ يبدو المكان المرسوم بمحتويات في لوحات الأبواب والمنازل عبارة عن شهادة مزدوجة أولها نشوء وآخرها أيلولة، ويعني هذا تسجيلا لأوضاع كانت على غير ماهي عليه حاضرا. وهذا ما يؤكد أن سيرورة التاريخ في مخيلة الرسام عكسية إذ تنطلق من الكمال وتؤول للنقصان، إنها رؤية إدانة. وعليه، فالمكان عند الرسام طبيعة ميتة حينا وحينا آخر موضوعة Le theme وحينا ثالثا تعبير لوني ذو نكهة مغربية شمالية، وحينا رابعا توحيش شفاف. أمن الخطوط والإيقاع والحيز والمسافة فلكها ذاتية لانطلاقها من هاجس مغربة التشكيل.
حسن الكلاوي والفرس
قامت تشخيصية الرسام حسن الكلاوي (1924) على مقولة الفرس في أوضاعه المختلفة، فهو كينونة وهو في نفس الوقت كائن. هو كائن من حيث أنه موضوع خصب للتحليل التشكيلي، وهو كينونة من حيث إظهار نبله واقفا وكبريائه متأودا ونفوره مسرعا.
الكائن مادة والكينونة حركة. وهنا يمكن أن نتساءل، هل هذه الكينونة لا تتكامل إلا باجتماع صفاتها المختلفة الموزعة على لوحات، أو أنها يمكن أن تلتقط كلها في لوحة واحدة، وتكون في اللوحات الأخرى تنويعات على الأصل ؟ الجواب أن هذه الصفات موزعة على ماهو أكثر من لوحة، مما يعني أن مقولة الفرس هذه تتدرج تصاعديا من لوحة إلى أخرى. وهناك تساؤل آخر، وهو هل تشخيص كينونة الفرس بهذا الشكل تشيييء له؟ لعل الأمر لا يعدو أن يكون وسيلة لتدريب اليد على نقل ما تشاهده العين اللاقطة من تقاطيع جسده المختلفة الدقيقة.
رأى الرسام في الفرس كائنا تشريحياً وجمالياً وفروسياً. فهو كائن تشريحي من خلال بروز تقاطيع جسده في حالة وقوف أو سباق أو جموح أو استعراض، وهو كائن جمالى من خلال تناسق هذه التقاطيع، وهو كائن فروسي من خلال حركات فانطازيا مغربية. كل ذلك بتشفيف الألوان في الجسد، وتعتيمها في فضاء اللوحة حتى ليكاد الفضاء أن يصبح ظلا للمرسوم فيه. ولا تأخذ الخطوط منحى تجريديا بل منحى عاديا لأن غايتها أن تعبر بالحقيقة لا بالمجاز. وإذا كان الإيقاع في لوحات الرسام أكثر بروزا فلأنه الوسيلة الوحيدة لتصوير الواقع حرفيا، وما لمسافة إلا فضاء فيه يتحرك هذا الايقاع. إن توقف الرسام عند الفرس في أغلب أعماله، لا ينافي أن بعض أعماله الأخرى شخصت المادة كطبيعة ميتة، والإنسان كحياة وكأوضاع نفسية مختلفة. مما دل على وفرة المرجعيات التي استقى منها الرسام تأثيراته التشكيلية.
مريم أمزيان والمرأة
أوقفت الرسامة مريم أمزيان (1930) أغلب أعمالها على تحليل المظهر الخارجي للمرأة في الجنوب المغربي، لما تتيحه للنظر من تماوج ألوان في أزيائها بما مريم مزيانينعكس عليها بهذه الأزياء من ظلال شمس الغروب وصفاء زرقة السماء. على أن بعضا من أعمالها الأخرى إن كانت تعكس نفس الحنين إلى المنابع المغربية الأولى، فإن انطباعيتها لم تهمل بقايا الأشياء التي يتكون منها هذا الجنوب، ذلك أنها تقتنص كل ما هو نموذجي فيه كالمعمار البدائي القائم على عنصر الطين المتمز بقصوره وقبابه. أما في خصوص المرأة الجنوبية فقد رسمت لها الرسامة صورة جانبية لوجهها (Portrait) كما لو كانت تلح على إبراز خصوصياتها في الزي وفي الزينة وفي صفاء الملامح وفي خشونة البشرة، كما رسمتها في حالة حركة جماعية وهي تؤدي رقصة أحيدوس، كما اهتمت بتصوير المظهر الخارجي للعرائس وهن يتحلين بأنواع الزهور وفي آذانهن الحلي الفضية الأمازيغية.