إن الصحف البولندية الصادرة في بغداد خلال عام واحد ـ وهي الفترة التي تواجد فيها البولنديون في العراق تحتوي على الكثير من التقارير الصحافية و المقالات التي تبين مدى مساهمة البولنديين في إنعاش وتنشيط الحياة الثقافية والفنية في بغداد آنذاك حيث كانت هناك العروض المسرحية ، والحفلات الفنية ، ومعارض الرسم والملصقات السياسية ، ومعارض الفن الشعبي البولندي ، وكانت تلك النشاطات تقام في قاعة الملك فيصل ، في قاعة المعهد البريطاني ، وفي المقهى البرازيلية . والى جانب هذا فإن عددا من الفنانيين البولنديين اعتادوا على المساهمة الدائمة في معارض جمعية أصدقاء الفن العراقية ، ومن هذة المعارض المشتركة ـ على سبيل المثال ـ المعرض السنوي الثالث لجمعية أصدقاء الفن الذى أقيم على قاعة المعهد البريطاني في يوم 28 كانون الثاني من عام 1943 ، ورافق افتتاح هذا المعرض عقد لقاءات وأمسيات ثقافية في مقر جمعية أصدقاء الفن شارك فيها الفنانون العراقيون وعدد من الفنانين البولنديين ، وكان للصحف البولندية نصيبها في تغطية هذة النشاطات . ففي يوم 17 شباط كتب الفنان يوسف جابسكي مقالا في جريدة الأخبار البولندية تحت عنوان منابع الفن الحديث . تحدث فيه عن إبدعات الفنانيين العراقيين المعروضة في معرض الجمعية ، وأستعرض فيه التراث الحضاري والفني في العراق القديم ، وكيف يستطيع الفنان العراقي المعاصر أن يستفيد من تلك الانجازات الفنية في حضارات سومر وبابل ، لغرض بناء شخصيته وأساليبه الفنية الحديثة ..
إما بالنسبة لمعارض الفن البولندي التي أقيمت في بغداد في تلك الفترة ، فإن أهمها ــ كما يبدو لي ــ هو ذاك المعرض الشامل الذي أشرف على إقامته ( مكتب الإعلام والثقافة للجيش البولندي في الشرق ) ، وكان تحت عنوان ( معرض التشكيليين البولنديين ــ الجنود ) وقد افتتح المعرض يوم 15 شباط عام 1943 على قاعة المعهدالبريطاني في بغداد، وقد حضر حفل الإفتتاح بعض رجالات الدولة العراقية آنذاك ، مثل الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله ، ورئيس الوزراء نوري السعيد ، ووزير الداخلية تحسين العسكري ، وحضر عدد من اعضاء السلك الدبلوماسي والعسكري والثقافي البولندي والبريطاني ، وكان من بينهم الجنرال فوادسواف أندرس القائد العسكري العام للجيش البولندي، وهنري مالهوم ,, H . Malhomme ,, ممثل حكومة بولندا في العراق ، كما حضر أيضا العديد من المثقفين والفنانين طبيعة صامتة - يوسف جابسكي - 1943العراقيين والبولنديين ، وفي هذا الحفل ألقى الفنان جواد سليم كلمة الفنانين العراقيين أشار فيها الى تراث بولندا الثقافي والفني ، والى أهمية البولنديين في الحياة الفنية في بغداد ، ودعا زملائه من الفنانين العراقيين الى السير على طريق الفنانيين البولنديين والإستفادة من تجاربهم الثقافية والفنية . وعن الفنانيين البولنديين ألقى يوسف جابسكي كلمة تحدث فيها عن حياتهم اليومية ولقاءاتهم بالفنانين العراقيين الشباب ، وعن معالم بغداد الحضارية التي تشكل عالما غنيا بعناصره الجمالية والتشكيلية ، ودعا الفنانين البولنديين والعراقيين الى استلهام تلك المعالم في أعمالهم الفنية ، وقد احتوى هذا المعرض على ( 125 ) عملا فنيا موزعة ما بين رسوم مائية ولوحات زيتية وتخطيطات، وكانت أغلب موضوعات هذة الأعمال مستمدة من مشاهد الطبيعة ومشاهد الحياة اليومية في العراق وفي بعض بلدان الشرق الأوسط، وعلى الرغم من كثرة الأعمال الفنية في هذا المعرض إلا أن ما أثار اهتمام الزوار الأجانب والعراقيين هو لوحة واحدة كانت بعنوان ( أم الفنان فائق حسن ) للرسام إدوارد ماتو شجاك ، ولهذه اللوحة حكاية طريفة ـــ : في شتاء عام 1942 ، أقنع الفنان فائق حسن والدته أن تجلس كموديل بملابسها العراقية أمامه وأمام زميله البولندي ماتوشجاك، وبعد ساعات من السكون والعمل المتواصل ، أنجز كل منهما لوحته ، وقبل أن تشاهد الوالدة نفسها على قماش اللوحتين، طلبت من إبنها أن يحتفظ بهاتين اللوحتين بعيدا عن عيون الناس ، ولكن الرسام ماتوشجاك أقنعها بإن تلقي نظرة على لوحته وعندما شاهدت نفسها ، صرخت بوجه هذا الرسام بأن لوحته ما هي إلا ( خرابيط ) وبقع شبيهة بالذباب وبهذا إستطاع هذا الرسام إخراج لوحته من بيت فائق حسن ، وكان ماتوشجاك قد رسم لوحته بأسلوبه الانطباعي التنقيطي، وبعد أن عرضت هذة اللوحة في بغداد ، تنقلت مع الفنان بعد الحرب العالمية الثانية ما بين فلسطين ومصر، وضاعت آثارها بعد أن أقام بشكل دائم في باريس عام 1952 ، ومن حسن الحظ أن صورة هذه اللوحة موجودة في دليل (معرض التشكيليين البولنديين ــ الجنود) وهذا الدليل محفوظ الآن في معهد تاريخ الفن ــ أكاديمية العلوم البولندية، ضمن وثائق الفن البولندي العائدة الى فترة الحرب العالمية الثانية .
وفي حالة الحديث عن أهمية هذا المعرض البولندي ، لا بد من القول بأنه كان من أبرز الأحداث الثقافية الفنية التي شهدتها بغداد خلال فترة الأربعينات ، فكان هو أول معرض بهذا المستوى للفن الأوروبي يقام في العراق كما أن الإنطباعية وما بعد الإنطباعية هي الأساليب التي كانت مثار اهتمام الفنانين العراقييين طوال فترة الأربعينات، وكان البعض منهم يرى بأن إتقان هذة الأساليب الفنية هو بمثابة هوية مرور نحو عالم الفن الأوروبي وتياراته المختلفة ..
الفنانون البولنديون.. نقطة تحول في تاريخ الفن العراقــي الحديث.
بعد تعرفه على الفنانيين البولنديين في العام 1942 كتب الفنان جواد سليم ، قائلا : إني أشكر الأقدار لتوصلي الى معرفتي الجديدة ، وسأبدأ منها مفتوح العينين ومفتوح الفؤاد لأن طريقي منير ....
جاءت هذه الكلمات بعد عامين من حالات اليأس والركود الفني التي عانى منها هذا الفنان وعدد من زملائه الفنانيين الذين عادوا الى بغداد ، دون إكمال دراستهم الفنية في أوروبا ، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية وفي بغداد اشتغل في البحر - يوسف جابسكي - باريس 1970بعضهم بالتدريس ، وعمل آخرون في مديرية الآثار ، وفي أعمال أخرى ريثما تنتهي هذة الحرب " اللعينة " وبعد احتلال الإنكليز للعراق عام 1941 ، شهدت بغداد أشياء كثيرة جديدة وغريبة ، لم يسبق لها مثيل من قبل تحدث عنها الشاعر عبد الوهاب البياتي قائلا : ,, لقد سيطر الإنكليز على كل شيء في البلاد حتى صار منظرهم ومنظر الجنود البولنديين والهنود مألوفا في الشوارع والمقاهي والمحلات العامة وأذكر جيدا أننا لم نكن نجد صعوبة كبيرة في التمييز بين الجندي الإنكليزي والجندي البولندي مع أن اشكالهم لم تكن تختلف بالمرة فالجندي الإنكليزي متجهم الوجه ، ثابت الخطى لا يحاول أن يختلط مع الناس أو يقترب منهم وكان كل واحد منهم يتقن تمثيل دور المحتل القوي ، أما الجنود البولنديين فقد كانو ا مرحيين طيبين على غاية من الأدب والدماثة وكانوا يجلسون في المقاهي ويقفون أمام البيوت القديمة وكأنهم فنانون كبار ، وفعلا كان فيهم فنانون كبار استفاد منهم فنانونا الشباب .. ,, في ظل هذة الأجواء الجديدة تعرف جواد سليم وزملائه على عدد من الفنانيين البولنديين ، " وارتبط هؤلاء مع بعضهم بميل فطري واحد هو إنساني محض، حب الحياة ، والكفاح في سبيل النظام الطبيعي ، حب الحياة والأشياء البسيطة التي تنسينا الموت ..." ــ هذا ما قاله جواد سليم في يومياته ـ وقد حاول هؤلاء أن يخلقوا في بغداد ، أجواء شبيهة بأجواء باريس الفنية ، فكانوا يجتمعون في كل مساء في المقهى البرازيلية ، لأحتساء القهوة الفرنسية ، مع جدالهم الطويل ، حول كل شيء وكانوا آخر من يترك المقهى، ويرى الفنان والأديب جبرا ابراهيم جبرا ، بإن هذة اللقاءات كانت بداية المرحلة المهمة الأولى في حركة الفن العراقي المعاصر ، حيث مهدت الطريق أمام الفنانيين العراقيين للتعرف على أسرار الفن الأوروبي الحديث .
كيف حدث هذا ؟ وما طبيعة الدور الذي لعبه البولنديين في ثقافة الفنانيين العراقيين ، وفي تجاربهم الفنية ...؟
في مذكرات وأحاديث الفنانيين العراقيين الذين عاشوا أحداث تلك الفترة أو الذين كانوا على اتصال دائم بالفنانيين البولنديين ، هناك الكثير من التفاصيل والحكايات التي تجيب عن هذة التساؤلات .
في يومياته يصف الفنان جواد سليم التحول الذي حدث في حياته الفنية بعد تعرفه على الفنانيين البولنديين قائلا: إن هؤلاء الأجانب كانوا ذوي أثر على فنانينا .. كانوا ذوي أفكار جديدة ، ومن الذين يمزجون في نتاجهم الفني عصارة تأملاتهم ودراساتهم بدنيا إحساسهم وخيالهم .. لقد تعرفت من البولنديين أشياء كثيرة سيكون لها تأثير عظيم جدا في مجرى حياتي .. إن بعض كلمات الرسام الكبير جابسكي ستبقى في رأسي طوال حياتي ، سألنا ذات مرة : هل تحبون بلادكم ......؟ فأجابه أحد الفنانين على الفور: لا ....
فقال جابسكي : إنك غلطان ، إن الإنسان لا يبدع في رسم شيء لا يحبه ، وإنكم لن تكونوا شيئا إذا لم يكن في قلوبكم الحب الصادق العميق للبلد الذي أعاشتكم تربته ، خذوا مثلا الرسامين الفرنسيين ، فقد استفادوا كثيرا من الشرق من ألوانه ومن مواضيعه ... ومن اقوال جابسكي : يجب ان تستغلوا عدم مجيء الرسامين الأوروبيين العظماء الى بلادكم، لأنها غنية بالألوان والصور وغنية بالمواضيع التي تساعدكم على تطوير أنفسكم ...
رجل والوان حمراء - يوسف جابسكي - 1980وفي مكان آخر من يومياته يكشف جواد سليم عن تلك التأثيرات الثقافية والفنية البولندية على النحو التالي: " عندما كنت في باريس لم أعط اهتماما كبيرا للمدرسة الفرنسية الحديثة ( الإنطباعية وما بعد الإنطباعية ) مع حبي الكبير لها، ورجعت الى بغداد ، وأنا لا اعرف شيئا عن هذة المدرسة ، وبعد تعرفي على الفنانين البولنديين ، بدأت أعرف الآن من هم الإنطباعيون ، وما بعد الإنطباعيين ، وعرفت قيمة المدرسة الفرنسية الحديثة، عرفت الآن ماهو اللون ، وكيف تستعمل الألوان ، الآن أخذت أفهم لوحات سيزان ، ورينوار ، وفان كوخ، ولوحات عظماء الفن الإيطالي ، ولوحات غويا، والتصوير الشرقي ... ثم عرفت أكثر من هذا ، عرفت قداسة العمل وقيمة الوقت ... " ويضيف واصفا الفنانيين البولنديين بأنهم لم يكونوا من طلاب ( البوزار ) في باريس أو ( السليد سكول ) في لندن ، بل كانوا من (عشاق المدرسة الفرنسية) وقد عاشوا في باريس فترة من الزمن وتعرفوا على عظمة هذة المدرسة وأسرارها بالدرس على يد أستاذهم صديق الرسام الفرنسي بونار ومن خلال زياراتهم للمتاحف