« قصة سيّدنا إبراهيم عليه السّلام »
أقبَلَ الربيع.. وتَدفَّقَت المِياهُ في نَهرَي دِجلةَ والفُرات.. وابتَهَج الناس، وأُقيمَتِ الاحتِفالاتُ في مدينةِ أُور وغيرِها من مُدُنِ بابل.
عندما يُقبِلُ الربيعُ يَفرحُ الناس... وعندما يَرتَفعُ مَنسُوبُ المِياهِ في الأنهار يَفرحُ الفلاّحون.. الناسُ يَفرحونَ لأنّ مَحصولَهُم في الحُقولِ سَيَزداد.
ويَتَوجّه أهالي مدينةِ أُور إلى « الزَّقُّورة » وهو مَعبدٌ مُدرَّجٌ هَرَميُّ الشكل.. يأخذونَ معهم النَّذورَ والهَدايا فيُقدّمونَها إلى الآلهة.. خاصّةً الإله « مَرْدُوخ ».
وأهلُ بابلَ يُقيمونَ احتفالاتِهم خارجَ المُدُنِ في مكانٍ جميلٍ يَحتلفونَ بالربيع، يَرقُصونَ ويأكُلونَ ويَلعَبونَ.. وعندما ينتهي الاحتفال يَعودونَ إلى مَدينتِهم، ويَتوجّهونَ إلى المَعبَد.
المعبدُ في مدينةِ « أُور » في أعلى « الزّقُّورَة »، وهناك تَصطَفُّ الآلهة.. آلهةٌ كثيرةٌ كلّها مَصنوعةٌ ومَنحوتةٌ من الصَّخرِ والحِجارة..
البابليّونَ كانوا يَعبُدونَ الشمسَ والقمرَ.. ويَعبدونَ النُّجومَ ويعبدونَ أيضاً كوكبَ « الزُّهْرَة »... كما يعبدونَ المَلِكَ الذي هو مالِكُ الأرض..
في ذلك الزمانِ وقبلَ أكثرَ من أربعةِ آلافِ سنةٍ.. كانَ النًّمرودُ بن كَنْعانَ هو المَلِك وهو مالكُ الأرض.. ومالكُ الناس أيضاً... كانَ بعضُ الناسِ يَعبدونَهُ لأنّهم يخافون سَطوتَه.. فهو يَقتُلُ ويَسجِنُ ويأخُذُ من المَحاصيلِ ما يشاء..
في الربيع يَحمِلُ الناسُ نُذورَهُم ويَذهبون إلى المَعبد.. يأخذونَ معهم الماعزَ وسنابلَ القمحِ ويقدّمونها إلى الآلهة لكي تَرضى عنهم وتَمنَحَهُم البَرَكةَ والخيرَ!
النُّذورُ كلُّها كانت مِن نصيبِ الكَهَنة.. وكانوا عُلَماء بالنجوم.. لهذا كان الناسُ يَهابونَهُم.. وكان المَلِكُ نفسُه يَستَشيرُهم.
ميلادُ إبراهيم
ذاتَ يومٍ جاءَ كَهَنةُ المعبدِ وقالوا لِلنَّمرود:
ـ إنّ النُّجومَ تُخبِرُنا عن ميلادِ صبيٍّ تكونُ على يَدَيهِ نهايةُ مُلكِك.
قالَ النَّمرودُ بقَلق:
ـ متى سَيُولَد ؟!
قالَ الكَهَنة:
ـ في هذا العام.
في ذلك العامِ أصدَرَ النَّمرودُ أمراً بقتلِ الأطفالِ الذُّكور.
في ذلك العامِ وُلِدَ سيّدُنا إبراهيمُ الخليل..
خافَت الأُمّ على ابنِها.. ذَهَبت إلى المَغارَة.. ووَضَعت طِفلَها البريءَ هناك.. وعادَت إلى منزِلها.
لَم يَعلَمْ أحدٌ بما حَصَل.. النمرودُ قَتَل كثيراً من الأطفالِ ذلك العام.. الأُمّهاتُ كُنَّ يَبْكِينَ على أولادِهِنّ، بعضُهم كان عُمرُه شُهوراً، وبعضُهم أياماً، وبعضُهم ساعاتٍ قليلة.
النَّمرودُ كانَ خائفاً من ذلك الصبيِّ المَوعُود.. وعندما مَرَّ ذلكَ العامَ هدأ بالُه.. لأنّه قتَلَ جميعَ الأولادِ الذَّكور.
وُلِد سيّدُنا إبراهيمُ في مدينةِ « كُوثْريا » قريباً من مدينةِ « أُور » وبابل: نَشأ سيّدُنا إبراهيم في الغار...
اللهُ ربُّنا كانَ يَرعاهُ، عَلَّمهُ كيفَ يَمصُّ إصبعَهُ.. فيَتَغذّى.
« النَّمرودُ » أرادَ أن يَقتُل الصبيَّ.. والله أرادَ أن يعيشَ إبراهيمُ.. يعيش من أجلِ أن يَهدي الناسَ الوثنيّينَ إلى عِبادةِ الله.
كَبُرَ إبراهيمُ.. وجاءت أُمُّه إلى الغار، وقَبَّلَته واحتَضَنَته، ثمّ أخَذَته إلى بَيتِها.. الناسُ كانوا يَظنُّونَ أن إبراهيمَ كان عُمرُه سنتَين أو ثلاثَ سنين.. لم يكونوا يَعلَمون أنّه عُمرَه عِدّةُ أسابيعَ، لهذا لَم يَأخُذْه جنودُ النَّمرود...
الأصنام
في ذلك الزمانِ كان الناسُ يَعبدونَ الأصنامَ، كانوا يَعبدونَ مَرْدُوخَ « إله الآلهة »! و « أي » إله العدلِ والقانون! والإله « سين » إله السماء، والإلهة « عِشْتار » وغيرها.. وكان كثيرٌ منهم يعبدونَ الزُّهرةَ والقَمرَ والشّمسَ.. لم يَكُن هناكَ مَن يَعبدُ اللهَ سبحانه.. في ذلكَ الزمنِ وُلِدَ سيّدُنا إبراهيمُ ونَشَأ..
« آزَر »
كان آزَرُ عالِماً بالنُّجوم.. وكانَ يَصنعُ تَماثيلَ الآلهة.. النَّمرود كانَ يَستَشيرُ آزَر...
عاشَ سيّدُنا إبراهيمُ في مَنزلِ آزَر.. وآزرُ كانَ جَدَّهُ لأُمّه.. لهذا كانَ سيّدُنا إبراهيمُ يقولُ له: يا أبَتي..
كَبُرَ إبراهيمُ وأصبَحَ فتىً... الله سبحانه وَهَبهُ عَقلاً وذَكاءً، كان قَلبُه طاهراً.. نَظيفاً، لهذا لَم يَخشَعْ للأصنام.. لَم يُؤمِنْ بها... كان يَتعَجّبُ كيف يَعبدُ الناسُ الأصنامَ وهم يَنحِتُونها بأيديهم.. اللهُ أكبرُ من ذلك!
ذهبَ إبراهيمُ إلى المدينة..
كانَ يَبحثُ عن الحقيقةِ. كان الوقتُ مَساءً... الظَّلامُ يَغمُرُ المدينة.. ليس هناكَ مِن ضَوءٍ سوى في المَعبدِ.. الناسُ الذينَ كانوا يَعبُدونَ كوكبَ الزُّهرةِ اتَّجهوا إلى السماءِ في خُشُوع.. كانوا يَعتَقِدونَ أنّ ذلكَ الكوكبَ هو رَبُّهم.. هو الذي يَرزُقُهم ويَمنَحُهُم البَرَكة والخَير!
وَقَف إبراهيمُ معهم.. كانَ يَنظُر إلى السماءِ يَبحَثُ عن الحقيقةِ.. يَبحَثُ عن الإلهِ الحقّ... في الأثناءِ بَزَغَ القمرُ.. ظَهَر في السماء. كانَ يتألّقُ بنورِه الفِضيّ..
سيّدُنا إبراهيم كانَ فتىً عاقلاً، أرادَ أن يُنَبِّهَ الناسَ إلى ضَلالِهم، أراد أن يَقولَ لَهُم: إن اللهَ أكبرُ من ذلك.. من أجلِ هذا قال لهم:
ـ هذا رَبِّي!
الناسُ الذيَن كانوا يَعبدُونَ كوكبَ الزُّهرةِ التَفَتوا إليه.. قالوا:
ـ كيف ؟!
قال إبراهيم:
ـ لأنّه في مكانٍ عالٍ.. ويضيء.
وبعد قليل غابَ كوكبُ الزُّهرة، فقال لهم إبراهيم:
ـ كوب الزُّهرة ليس ربّي.
تعجّبوا وقالوا له:
ـ لماذا ؟
فقال إبراهيم:
ـ لقد اختَفى كوكبُ الزهرة الذي تعبدونه.. والإله الحق لا يختفي ولا يغيب...
مَرّ الوقتُ والقمرُ يسيرُ في السماء حتّى اختَفى.
بعد ساعةٍ اشرَقَت الشمسُ.. هتَفَ إبراهيم:
ـ هذا ربّي!... هذا أكبر..
بعضُ الناسِ صَدّقوا ما يَقولُه الفَتى.. ربّما كانَ على حقّ.. الشمسُ هي التي تَهَبهُم النورَ والدِّفء.
ولكنّ الشمسَ غابَت أيضاً وعادَ الظلامُ مرّةً أخرى! نَظَر إبراهيمُ إلى السماء وهَتَف:
ـ أنا أتبرّأُ من عبادةِ الشمس.. إنّها ليست الربَّ المَعبود.. إنني أعبُد الله الذي خَلَق الزُّهرةَ والقمرَ والشمسَ وخلَق الأرضَ والسماءَ وخَلَقنا جميعاً.